فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{ولو شئنا لرفعناه}.
قالت فرقة معناه لأخذناه كما تقول رفع الظالم إذا هلك، والضمير في: {بها} عائد على المعصية في الانسلاخ وابتدأ وصف حاله بقوله تعالى: {ولكنه أخلد إلى الأرض} فهي عبارة عن إمهاله وإملاء الله له، وقال ابن أبي نجيح {لرفعناه} معناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها، والضمير على هذا عائد على الآيات، ثم ابتدأ وصف حاله، وقال ابن عباس وجماعة معه معنى {لرفعناه} أي لشرفنا ذكره ورفعنا منزلته لدينا بهذه الآيات التي آتيناه، {ولكنه أخلد إلى الأرض} فالكلام متصل، ذكر فيه السبب الذي من أجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره، فمن أوتي هذا، و{أخلد} معناه لازم وتقاعس وثبت، والمخلد الذي يثبت شبابه فلا يغشاه الشيب ومنه الخلد، ومنه قول زهير: [الكامل]
لمن الديار غشيتها بالفدفد ** كالوحي في حجر المسيل المخلد

وقوله: {إلى الأرض} يحتمل أن يرد إلى شهواتنا ولذاتها وما فيها من الملاذ، قاله السدي وغيره، ويحتمل أن يرد بها العبارة عن الأسفل والأخس كما يقال فلان في الحضيض، ويتأيد ذلك من جهة المعنى المعقول وذلك أن الأرض وما ارتكز فيها هي الدنيا وكل ما عليها فان، من أخلد إليه فقد حرم حظ الآخرة الباقية، وقوله: {فمثله كمثل الكلب} قال السدي وغيره: إن هذا الرجل عوقب في الدنيا بأنه يلهث كما يلهث الكلب فشبه به صورة وهيئة، وقال الجمهور إنما شبه به في أنه كان ضالًا قبل أن يؤتى الآيات ثم أوتيها فكان أيضًا ضالًا لم تنفعه، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه وتركه دون حمل عليه، وتحرير المعنى فالشيء الذي تتصوره النفوس من حاله هو كالذي تتصور من حال الكلب، وبهذا التقدير يحسن دخول الكاف على مثل، واللهث تنفس بسرعة وتحرك أعضاء الفم معه وامتداد اللسان، وأكثر ما يعتري ذلك مع الحر والتعب، وهو في الفرس ضبح، وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال، وذكر الطبري أن معنى {إن تحمل عليه} أي تطرده وحكاه عن مجاهد وابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: وذلك داخل ي جملة المشقة التي ذكرنا، وقوله: {ذلك مثل القوم} أي هذا المثل يا محمد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالتهم ولم ينتفعوا بذلك، فمثلهم كمثل الكلب، وقوله: {فاقصص القصص} أي اسرد ما يعلمون أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا أهل الكتب الماضية ولست منهم {لعلهم يتفكرون} في ذلك فيؤمنون. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}.
في هاء الكناية في {رفعناه} قولان:
أحدهما: أنها تعود إلى الإِنسان المذكور، وهو قول الجمهور؛ فيكون المعنى: ولو شئنا لرفعنا منزلة هذا الإنسان بما علمناه.
والثاني: أنها تعود إلى الكفر بالآيات، فيكون المعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بآياتنا، وهذا المعنى مروي عن مجاهد.
وقال الزجاج: لو شئنا لحُلْنا بينه وبين المعصية.
قوله تعالى: {ولكنه أخلد إِلى الأرض} أي: ركن إلى الدنيا وسكن.
قال الزجاج: يقال: أخلد وخلد، والأول أكثر في اللغة.
والأرض هاهنا: عبارة عن الدنيا، لأن الدنيا هي الأرض بما عليها.
وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: أنه رَكَن إلى أهل الدنيا، ويقال: إنه أرضى امرأته بذلك، لأنها حملته عليه، وقيل: أرضى بني عمِّه وقومَه.
والثاني: أنه ركن إلى شهوات الدنيا، وقد بُيِّن ذلك بقوله: {واتَّبع هواه} والمعنى: أنه انقاد لما دعاه إليه الهوى.
قال ابن زيد: كان هواه مع قومه.
وهذه الآية من أشد الآيات على أهل العلم إذا مالوا عن العلم إلى الهوى.
قوله تعالى: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} معناه: أن هذا الكافر، إن زجرتَه لم ينزجر، وإن تركتَه لم يهتد، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب، فانه إن طُرد وحُمل عليه بالطرد كان لاهثًا، وإن تُرك وربض كان أيضًا لاهثًا، والتشبيه بالكلب اللاهث خاصة؛ فالمعنى: فمثله كمثل الكلب لاهثًا، وإنما شبهه بالكلب اللاهث، لأنه أخسُّ الأمثال على أخس الحالات وأبشعها.
وقال ابن قتيبة: كل لاهث إنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب، فانه يلهث في حال راحته وحال كلاله، فضربه الله مثلًا لمن كذَّب بآياته، فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته وزجرته فسعى لهث، أو تركته على حاله رابضًا لهث.
قال المفسرون: زُجِرَ في منامه عن الدعاء على بني اسرائيل فلم ينزجر، وخاطبتْه أتانه فلم ينته، فضُرب له هذا المثل ولسائر الكفار؛ فذلك قوله: {ذلك مثل القوم الذين كذَّبوا بآياتنا} لأن الكافر إن وعظته فهو ضال وإن تركتَه فهو ضال؛ وهو مع إرسال الرسل إليه كمن لم يأته رسول ولا بيِّنة.
قوله تعالى: {فاقصص القصص} قال عطاء: قَصَصَ الذين كفروا وكذَّبوا أنبياءهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ} يريد بلعام.
أي لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة.
{بِهَا} أي بالعمل بها.
{ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض} أي ركن إليها؛ عن ابن جبير والسدي.
مجاهد: سكن إليها؛ أي سكن إلى لذّاتها.
وأصل الإخلاد اللزوم.
يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه.
قال زهير:
لمن الديار غشيتَها بالغَرْقَد ** كالَوْحي في حجرَ المِسيل المخلد

يعني المقيم؛ فكأن المعنى لزم لذّات الأرض فعبر عنها بالأرض، لأن متاع الدنيا على وجه الأرض.
{واتبع هَوَاهُ} أي ما زينّ له الشيطان.
وقيل: كان هواه مع الكفار.
وقيل: اتبع رِضا زوجته، وكانت رغِبت في أموالٍ حتى حملته على الدعاء على موسى.
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} ابتداء وخبر.
{إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} شرط وجوابه.
وهو في موضع الحال، أي فمثله كمثل الكلب لاهثًا.
والمعنى: أنه على شيء واحد لا يَرْعَوِي عن المعصية؛ كمثل الكلب الذي هذه حالته فالمعنى: أنه لاهث على كل حال، طردته أو لم تطرده.
قال ابن جُرَيْج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث؛ كذلك الذي يترك الهدى لا فؤاد له، وإنما فؤاده منقطع.
قال القتيبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش.
فضربه الله مثلًا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته ضَلّ وإن تركته ضلّ؛ فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث؛ كقوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193].
قال الجوهري: لهث الكلب بالفتح يلهث لهْثًا ولُهاثًا بالضم إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش؛ وكذلك الرجل إذا أعْيَى.
وقوله: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} لأنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربًا، وإذا تركته شدّ عليك ونبح؛ فيتعِب نفسه مقبلًا عليك ومدبرًا عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان.
قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: إنما شبهه بالكلب من بين السباع لأن الكلب ميت الفؤاد، وإنما لهاثه لموت فؤاده.
وسائر السباع ليست كذلك فلذلك لا يلهثن.
وإنما صار الكلب كذلك لأنه لما نزل آدم صلى الله عليه وسلم إلى الأرض شمِت به العدو، فذهب إلى السباع فأشلاهم على آدم، فكان الكلب من أشدّهم طلبًا.
فنزل جبريل بالعصا التي صرفت إلى موسى بمَدْيَن وجعلها آية له إلى فرعون وملئه، وجعل فيها سلطانًا عظيمًا وكانت من آس الجنة؛ فأعطاها آدم صلى الله عليه وسلم يومئذ ليطرد بها السباع عن نفسه، وأمره فيما روي أن يدنو من الكلب ويضع يده على رأسه، فمن ذلك ألفه الكلب ومات الفؤاد منه لسلطان العصا، وألِف به وبولده إلى يومنا هذا، لوضع يده على رأسه وصار حارسًا مِن حُرّاس ولده.
وإذا أُدِّب وعلم الاصطياد تأدّب وقبل التعليم؛ وذلك قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} [المائدة: 5].
السّدّي: كان بلعام بعد ذلك يلهث كما يلهث الكلب.
وهذا المثل في قول كثير من أهل العلم بالتأويل عامٌّ في كل من أوتي القرآن فلم يعمل به.
وقيل: هو في كل منافق.
والأوّل أصح.
قال مجاهد في قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} أي إن تحمل عليه بدابتك أو برجلك يلهث أو تتركه يلهث.
وكذلك من يقرأ الكتاب ولا يعمل بما فيه.
وقال غيره: هذا شرُّ تمثيل؛ لأنه مثله في أنه قد غلب عليه هواه حتى صار لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا بكلب لاهثٍ أبدًا، حُمِل عليه أو لم يحمل عليه؛ فهو لا يملك لنفسه ترك اللهثان.
وقيل: من أخلاق الكلب الوقوع بمن لم يَخِفه على جهة الابتداء بالجفاء، ثم تهدأ طائشته بنيل كل عوض خسيس.
ضربه الله مثلًا للذي قَبِل الرِّشوة في الدِّين حتى انسلخ من آيات ربِّه.
فدلّت الآية لمن تدبرها على ألاّ يغترّ أحد بعمله ولا بعلمه؛ إذ لا يدري بما يُختم له.
ودلّت على منع أخد الرشوة لإبطال حَقٍّ أو تغييره.
وقد مضى بيانه في المائدة.
ودلّت أيضًا على منع التقليد لعالم إلا بحجة يبينها؛ لأن الله تعالى أخبر أنه أعطى هذا آياته فانسلخ منها فوجب أن يخاف مثل هذا على غيره وألاّ يقبل منه إلا بحجة.
قوله تعالى: {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} أي هو مثل جميع الكفار. اهـ.

.قال ابن كثير:

قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} يقول تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي: لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ} أي: مال إلى زينة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرّته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى.